الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والحجاب من خصائص هذه الأمة، أما حرمة النظر فلا، إذ جاء في الإنجيل من نظر إلى أجنبية يشتهيها فهو يزني.قال تعالى حكاية عن سارة رضي اللّه عنها: {فَضَحِكَتْ} سرورا بزوال الخوف الذي توقعته من عدم أكلهم، ومن فسره هنا بمعنى الحيض، فقد صرفه عن معناه الحقيقي، وإن كثيرا من العلماء أنكروا مجيء الضحك بمعنى الحيض، وما استدل به بعضهم من قوله:
وقول الآخر: بأن الضحك فيها بمعنى الحيض خطأ بين، لأن الشاعر أراد أنها تكشر بأنيابها عند أكل اللحم، فمن زعم أن كثرها هذا ضحك أي حيض فقد سها ولم يفرق بين الريم والمها، ولو أراده تعالى لقال حاضت لأنه لفظ جاء ذكره مرارا في سورة البقرة والطلاق فلا يقال لم يذكره لأنه مستهجن، هذا وحقيقة الضحك انبساط الوجه من سرور النفس ويستعمل في السرور المجرد في التعجب وسميت مقدمات الأسنان ضواحك لبدوها عند الضحك، وما قاله بعض اللّغويين ان ضحكت بمعنى حاضت، واستدل ببعض أقوال العرب فجائز، إلا أنه فيما نحن بصدده هنا لا ينطق على المعنى المراد، واللّه أعلم.قالوا إن إبراهيم عليه السلام قال لضيفانه لما ذا لا تأكلون؟ فقالوا له لا تأكل طعاما بلا ثمن، فقال ثمنه ذكر اللّه أوله، وحمده آخره، فقال جبريل لميكائيل حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا.قالوا وضحكت سارة تعجبا لأنها وزوجها يخدمونهم بأنفسهما وهم لا يمدون أيديهم إلى الطعام الذي هو من أحسن الأطعمة إذ ذاك، وقد يكون الآن أيضا من أحسنها عند كثير من الناس، وقيل إنها ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، والصحيح الأول، لأنها لا تعرف سبب مجيئهم أولا حتى تضحك تعجبا من ذلك، ومن قال إنها ضحكت بالبشارة من أن يكون لها ولد وحفيد على كبر سنها، فهو سابق لأوانه، لأن الملائكة لم تذكر هذه البشارة أولا.قال تعالى: {فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ} ولد لإبراهيم منها {وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} 71 حفيدا لها من ابنها اسحق، وفي هذه الآية بشارة أخرى بطول عمرهما حتى يريا ولدهما يكبر ويتزوج ويأتيه ولد، وإنما خصّت بالبشارة دون إبراهيم، مع أنها لهما جميعا لأن النساء أشدّ فرحا وأعظم سرورا بذلك من الرجل، ولأن إبراهيم له ولد من جاريتها هاجر، وهو إسماعيل عليه السلام جد نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم وسائر الأنبياء من اسحق أي من إبراهيم، فما بعد، أما من تقدمه كهود وصالح وغيرهما ممن لم يقصه اللّه علينا، فإنهم من سيدنا نوح عليه السلام وهو ومن تقدمه كإدريس وشيث وغيرهما من آدم عليه السلام {قالَتْ يا وَيْلَتى} كلمة يستعملها الناس عند رؤية أو سماع ما يتعجب منه مثل يا عجباه نداء ندبة وأصلها (ويلتي) فأبدل الألف من ياء المتكلم للمضاف {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} كيف يكون هذا زاعمة أنه من المحال بالنسبة لمثلها، لأنها كانت بنت تسعين سنة على ما قالوا: {وَهذا بَعْلِي شَيْخًا} زوجي مسنا كبيرا قالوا كان ابن مئة وعشرين سنة، والبعل هو المستعلي على غيره، ولما كان الزوج مستعليا على المرأة قائما بأمرها سمي بعلا، قال تعالى: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ}الآية 34 من سورة النساء، والشيخ لغة من بلغ سن الأربعين، واصطلاحا من بلغ رتبة أهل الفضل ولو صغيرا، وبعد أن استفهمت استفهام تعجب واستبعاد أكدته بقولها: {إِنَّ هذا} الذي أخبرتموني به {لَشَيْءٌ عَجِيبٌ 72} مخالف للعادة، إذ لا يتصور أن مثلي يلد لمثله، ولا يتوهم ذلك أصلا، ولم يكن تعجبها هذا من قدرة اللّه تعالى، لانها تعلم أنه أقدر على أكثر من ذلك، كيف وقد نجى زوجها من النار ومن كيد النمرود وحفظها من الجبار الذي أراد أخذها من زوجها، وإنما تعجبت من حالها وحال زوجها بالنسبة للبشارة ليس إلا، {قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} الذي يخرج الحي من الميت والميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها كلا، لا تعجبي فإن اللّه أقدر على أن يجعل العجوز مثلك تلد من الشيخ الذي هو مثل زوجك، فقالت لا عجب من أمر اللّه، وإنما من أمري وأمر بعلي، فلما أعجبهم كلامها دعوا لهما بما ذكر اللّه، وهو {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} آل إبراهيم {إِنَّهُ حَمِيدٌ} على أفعاله كلها ومنها تعجيل النعم وتأجيل النّقم {مَجِيدٌ 73} شريف منيع لا يرام كريم جواد واسع العطاء، وإن كلمة مجيد كررت في القرآن أربع مرات فقط هنا وفي أول ق وفي الآيتين 15/ 21 من سورة البروج المارتين، قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ} الخوف الذي نشأ من عدم إقدامهم على أكله {وَجاءَتْهُ الْبُشْرى} بالولد والحفيد، المتضمنة إطالة عمره بعد هرمه شرع {يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ 74} لانه لما علم أنهم ملائكة اللّه وعلم أن مجيئهم لإهلاك قوم لوط سبب مساوئهم الخبيثة وتعديهم على نبيهم، قال لهم أرأيتم لو كان في مدائن لوط خمسون مؤمنا أتهلكونها؟ قالوا له لا، ثم لم يزل بهم حتى قال مؤمن واحد قالوا لا، كما في بحث التكوين ص 18 من التوراة، قال لهم إن فيها لوطّا، قالوا نحن أعلم بمن فيها وإنا لننجينه بأمر اللّه وأهله إلا امرأته، ونظير هذا في الآية 32 من سورة العنكبوت الآتية، ثم طلب تأخير العذاب عنهم علّهم يؤمنون، فبين اللّه تعالى أن الذي حمل إبراهم على هذه المجادلة مع الملائكة ما هو مجبول عليه من الشفقة على عباد اللّه، ومشرب فيه من الصفات التي ذكرها اللّه بقوله: {إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ} لا يحب تعجيل العقوبة على من يسيء إليه، كثير الاحتمال للأذى، صفوح عن زلة غيره، عفو على من اعتدى عليه {أَوَّاهٌ} كثير التأوه والتحسر خوفا من اللّه {مُنِيبٌ 75} رجاع إلى اللّه رقيق القلب شديد الرأفة عظيم الإخبات إلى ربه كبير الرحمة بعباد اللّه، فهذه الصفات الجليلة حملته على الاستغفار لأبية كما أدت به إلى طلب تأخير العذاب عن قوم لوط، لأن الكامل لا يقصر خيره على الأقارب فقط بل يعم من عرف ومن لم يعرف، ولما كان الأمر بالإهلاك لا محيص عنه مقضيا مبرما بعلم اللّه جفّ القلم به في اللوح المحفوظ، خاطبه ربه عز وجل لأن الملائكة لا تقدر أن ترده لعلمهم بقربه من اللّه واتخاذه خليلا له، قال عز قوله: {يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} الأمر لا تطلب تأخير عذاب جفت به الصحف عن أمري واترك رسلنا وشأنهم في تنفيذه {إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} الذي لا راد له {وَإِنَّهُمْ} قوم لوط البغاة الذين تجاوزوا حدود اللّه بشيء لم يسبقوا به، ولولا هم لم يعرف {آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ 76} بدعاء ولا جدال ولا بطريق من الطرق، فسكت إبراهيم وترك جدال الملائكة لما عرف أن الأمر مقطوع به من عند اللّه لا حول لأحد ولا طول بتأخيره عن وقته طرفة عين، فخرج الملائكة من عنده وتوجهوا إلى قرى لوط وكان بينهما أربعة فراسخ.
ومعناه في الأصل الناصية من البيت أو الجبل، ومن قال إن أو هنا بمعنى بل أي قال سيدنا لوط بل آوي إلى ركن شديد، ينافيه الحال، واستغراب سيد الرجال قوله وعده منه بادرة، فقال الحديث السالف الذكر، ولو كان يعلم أن ذلك قصد لوط لما ذكر هذا الحديث، وإن مما يدحض هذا القول الآية التالية ومجيء أو بمعنى بل في بعض المواقع لا يفيد أنها هنا بمعناها، ثم أغلق لوط بابه وصار يدافع قومه ويناظرهم ويناشدهم اللّه من ورائه، وهم لا يلتفتون إليه، ويعالجون فتح الباب ليدخلوا عليه ويتسلطوا على أضيافه، وهو عليه السلام أقوى منهم على الانفراد، ولكن الكثرة تغلب الشجعان، فلما رأت الملائكة ما يقاسيه لوط من الكرب بسببهم وهم ينتظرون الساعة المقدرة لإهلاكهم {قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} أرسلنا لإهلاكهم، فتنح عن الباب واتركنا وإياهم، وإنك تلجأ إلى ركن شديد، فإنهم {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} لأن اللّه حافظك منهم، ولن يستطيعوا علينا، فإن اللّه سلطنا عليهم، فبعد صراحة هذه الآية يطرح قول كل من يقول إن أو بمعنى بل، ويكذبه، إذ لو كانت أو بمعنى بل فلا حاجة للإتيان بها، ولا محل لقول الملائكة إنا رسل ربك، أي ناصروك عليهم، قالوا فترك الباب لما عرفهم أنهم ملائكة، فدخلوا يتسابقون إلى الملائكة، ولما أرادوا مد أيديهم إليهم تحوّلوا إلى صورتهم الحقيقة، واستأذن جبريل ربّه رب العزة في عقوبتهم، إذ جاء أجلها، لأنهم لا يقدرون أن ينفذوا شيئا أرسلوا إلى تنفيذه إلا بعد الاستئذان، لأنه قد يعفو عن العقوبة وهو الذي لا يسأل عما يفعل، فأذن لهم، فضربهم ضربة واحدة بجناحه، فطمس أعينهم، فانطلقوا عميا يركب بعضهم بعضا ويقولون النجاة النجاة، فإن في بيت لوط سحرة! وجاء في رواية أخرى أنهم كسروا الباب ودخلوا فلطمهم جبريل فطمس أعينهم، فقالوا وهم هاربون يا لوط جئتنا بسحرة، وتوعدوه، فأوجس في نفسه خيفة منهم إذ قال سيذهب هؤلاء ويذرونني لا ناصر لي، لأني غريب عنهم، فعندها قال جبريل لا تخف والتفت هو وجماعته إلى لوط وقالوا: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} قرئ أسر بالقطع والوصل من الإسراء وهما بمعنى واحد، وقيل إن أسرى سار أول الليل وسرى آخره، ولا يقال في النهار إلا سار كما بيناه أول سورة الإسراء المارة، {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} آخره أو شدة ظلمته، قال مالك بن كنانة:
|